
ذاكرة العطر
في صباح هذا اليوم،بدأنا أنا وزميلة لي تبادل أطراف الحديث، كان حديثا دافئا، عن أشغال الدنيا، وعن هموم العيش، عن الأحلام التي تتآكل تحت ثقل الواجبات.
وفي تلك الأثناء، دخلت زميلة أخرى إلى المكان، وكانت تحمل بيدها زجاجة صغيرة من العطر، قامت بنثر بضع قطرات على يدي من ذلك العطر الذي كانت تحمله. في بداية الأمر، لم أشعر بشيء سوى أنها كانت رائحة جميلة، لكنها لم تكن مجرد رائحة عادية أبدا، بل كانت كأنها توقظ شيئا قديما عالقا في دهاليز الذاكرة.
بلحظة، لاحظت كيف غيرت تلك الرائحة ملامحي، شردت فجأة، غامت عيناي، وكأنني رأيت صورا أخرى، ولكنها كانت بعيدة عن المكان الذي كنت فيه. لوهلة، شعرت أنني لست بخير، وتملكني الصمت لفترة.
إنها رائحة العطر التي أعادتني إلى الوراء.
من كان يظن أن سنوات الاشتياق والحنين تذوب في لحظة بفعل رائحة!
كم من العطور تحمل في ذراتها الذاكرة؟ كم من الوجوه توقظ فينا قصصا خلناها دُفنت؟ كم من المسافات المقطوعة في صمت، تختبئ فيها قصص رحيل وفراق أحبة لنا كانوا بيننا يوما؟
للعطر ذكريات ومواسم في قلوبنا، روائح راحلين افتقدناهم، رشة عطر قد تذهب بخيالنا إلى البعيد، إلى أزمان مضت، تنقلك تلك الرائحة إلى ما وراء النسيان.
فهذا العطر يستدعي ذكريات الماضي بدون استئذان، يقتحم روحك دون مقدمات. العطر هو بطاقة هوية لأزمنة وأمكنة وبشر عبروا خلالنا وظلوا عالقين في خبايا الذاكرة.
رائحة ذلك العطر كانت كفيلة بأن تعيد لي جزءا من شريط ذكرياتي معهم، والذكريات القديمة بيننا جعلتني أستحضر كل المواقف.
دائمًا ما كنت أتيقن أن كل الذكريات عابرة، إلا ذكرى رائحة العطر، وأنه مهما تراكمت ذكرياتنا على رفوف يعلوها غبار الأيام، لن تتلاشى ولن ينطفئ شعاعها. تلك الذكريات شكلت لدي بعدا مشاعريا لم أستطع أن أبقيه على رفوف النسيان.
أرى الكثير من الصور من تلك الفترة تتراءى أمام ناظري حتى هذه اللحظة، إنها ذكرياتي التي أحيتها رائحة عطر.
أما زميلتي صاحبة العطر فكانت منشغلة مع أخرى، غافلة عن أنها أيقظت قصة عمر بأكملها. لم تكن تعرف أنها أخرجت من ذاكرتي تاريخا موجوعا، وأن عطرا بسيطا، قد فتح أبوابامغلقة على مصراعيها.