
تكريم العُلماء في بلاد الحَرمين الشريفين
مُلتقى سَماحة الشَّيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله أنموذجًا
إنَّ مما رسَّخته الشَّريعة من ثوابت في باب أَداء الحقُوق لأهلها، أن جعلت في أعلى مصافِّ هؤلاء المستحقِّين لمقامات البرِّ والإجلال والتَّوقير، أهل العلم بالشرع والدِّين؛ يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين": "العلماء هم في الأرض بمنزلة النُّجوم في السماء؛ بهم يهتدي الحيران في الظَّلماء، وحاجةُ النَّاس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطَّعام والشَّراب".
ولم يأتِ نسج هذه المكَانة من فراغ، ولم يتهيَّأ الرَّفع من شأنهم محاباةً أو مصانعة للذَّوات؛ بل هي فَحوى ما توارد عليه كريمُ منطوق الكتاب والسُّنة النبوية، وهدايةٌ محكمةٌ من مَعين هذا الوحي المطهَّر؛ يقولُ الله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"، ويقولُ صلى الله عليه وسلَّم، كما عند أبي داود في "سُننه": "إنَّ من إجلال الله إكرامَ ذي الشَّيبة المسلم، وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرامَ ذي السُّلطان المقسط".
ولم يتوانَ رعيلُ الإسلام الأوَّل، وحملته الصَّادقون الأوفياء؛ عن أن يكونُوا نموذجًا يُحتذى في رَسْم هذه العلاقة البرَّة الكريمة، وموافاة أهل الإحسَان بإحسانهم؛ فهذا الصَّحابيُّ الجليل ترجمان القرآن عبدُ الله بن عباس -رضي الله عنهما- يأخذ بركاب أُبَيِّ بنِ كعب رضي الله عنه؛ فقيل له: أنت ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- تأخذ بركاب رجلٍ من الأنصار؟ فقال: "إنَّه ينبغي للحَبر أن يُعظَّم ويُشرف".
وقد بلغ من هذا المعطى التَّوقيري والإجلالي، وأن يُكرم مَن أَفنوا أَعمارهم ومُهجهم لله؛ أن كان عقيدةً مسطَّرة، متناولةً بالتَّدوين والتَّعليم عند أهل السُّنة والجماعة؛ يقولُ أبو جعفر الطَّحاوي في عقيدته المشهورة: "وعلماء السَّلف من السَّابقين، ومَن بعدهم من التَّابعين، أهلُ الخير والأثر، وأهلُ الفقه والنظر، لا يُذكَرون إلا بالجميل، ومن ذَكَرهم بسُوءٍ؛ فهو على غير السَّبيل".
إنَّ هذا المنهج، والذي يفيضُ برًّا وإكبارًا لهذه القَامات الرَّاسخة أقدامها في خدمة الشريعة؛ هو ما عهدنَا عليه هذه القِيادة المباركة في المملكة العربية السعوديَّة؛ فهي وعلى مَدار تَعاقب مُلوكها الكرام، حتَّى عهد خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده، لم تزل تُسجل كلَّ معاني الوفاء والإجلال لكبار عُلمائها؛ فهم محل المشُورة ومعقد الرَّأي، وإذا ما حضرُوا أُنزلوا من المجالس صُدورها، بل إنَّ ولاةَ الأمر -رعاهم الله- يتتبَّعون خاصَّة أحوالهم، ويتفقَّدونهم بالصِّلة والزِّيارة؛ ومشاهد هذا البرِّ والتَّقدير جليةٌ في مختلف المناسباتِ.
وقد كان من مظاهر هذا التَّقدير لعُلماء هذه البلاد المباركة؛ ما نظَّمته رئاسة الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي من ملتقى علميٍّ، تحت عنوان: مآثر سماحة الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله، وجهوده في المسجد النَّبوي، برعايةٍ وتشريفٍ من صاحب السُّمو الملكي الأمير: سلمان بن سلطان بن عبد العزيز، أمير منطقة المدينة المنورة، وذلك في غرفة المدينة المنورة، في الفترة 15-16/10/2025م.
وقد كان من مقاصد هذا الملتقى؛ تخليد ذكرى هذا الإمام الجليل، وإبراز سيرته العطرة، واستجلاء جهوده في الإمامة والخطابة وخدمة العلمِ والقضاءِ والفتوى وخدمة المجتمع، وبيانِ أثره في المسجد النَّبوي الشريف، وتربيته لطلاب العلم، وإصلاحه بين النَّاس، وبثه روح الوسطيَّة والاعتدال.
وقد شارك في هذا الملتقى نخبةٌ من أصحابِ المعالي والفضيلة، من العلماء والباحثين والمفكِّرين؛ فتنوَّعت أطروحاتهم بين الأبحاث العلمية والتَّاريخية، والدراسة الشخصية، والتحليلِ العلمي، والتوثيقِ المعرفي، ضمن تسع جلسات رئيسة.
وقد تناولت البحوثُ والمشاركاتُ العلميةُ جهودَ الشيخِ -رحمه الله- في الإمامة والخطابة، وفي نشر العلمِ، وتوجيهِ المجتمعِ إلى الاعتدالِ والائتلافِ، وحسن الولاء والانتماء لولاة أمر هذه البلاد المباركة، كما سلَّطت الضوءَ على منهجه في الفتوى والقضاء، ومكانته الاجتماعيَّة بين علماء المدينة، ومحبته في قلوب أهلها وزوَّارها.
ومما خرج به هذا الملتقى من توصياتٍ، لعلَّ من أبرزها: أهميةُ جمعِ تراثِ الشيخِ وتحقيقهِ ونشرهِ ورقيًّا، وإنشاء منصة رقمية لنشر تلاواته وخطبه، وترجمة جميع ما يتيسر منها باللغات الحية؛ لتيسيرِ الانتفاعِ بها للأجيالِ القادمة والعلماء، ومنها أيضًا: تفعيلُ الشراكاتِ بين رئاسةِ الشؤون الدينية والجامعاتِ السعودية ومراكز البحوث والدراسات لإقامةِ دراساتٍ علميةٍ متخصصةٍ حول أعلامِ الحرمين الشريفين، وأهمية استمرار هذه الملتقيات في كل عام؛
لما لها من آثار مباركة في تخليد تراث أعلام الحرمين الشريفين، ومنها أيضًا: إطلاقُ جائزةٍ سنويةٍ باسمِه رحمه الله، تُمنحُ لأفضلِ بحثٍ أو عملٍ علميٍّ يوثّقُ جهودَ علماء المسجد النبوي الشريف، أو يخدم الشأن الديني في الحرمين الشريفين.