
براءةُ عِلم الأُصول مِن تَقسية القُلوب
إنَّ الوظيفة الكبرى التي تتغيَّا علومُ الشَّريعة تحصيلَها وتفعيلَها، ولا تنفكُّ في كبار وصغار مقرَّراتها عن ابتغاء تذليل السَّبيل إليها؛ إنَّها وظيفة البَلاغ والدَّعوة إلى الله ومراداتِه؛ وكُلما كمُل العلمُ من هذه المقاصد كلَّما كمُل في ميزان الشَّرع؛ يقول الحجَّة الغزالي، وهو ينقدُ خروجَ الفِقه عن هذا السَّمت: "إذ خصَّصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفَتاوى، والوقوف على دقائق عِللها، واستكثار الكَلام فيها، وحفظ المقَالات المتعلِّقة بها... ولقد كان اسمُ الفقه في العَصر الأوَّل مطلقًا على علم طريق الآخرةِ، ومعرفة دقائق آفاتِ النُّفوس، ومفسداتِ الأَعمال، وقوةِ الإحاطة بحقارة الدُّنيا، وشدَّة التطلُّع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخَوف على القلبِ".
إنَّ هذه الثُّنائيَّة بين أَنَقِ العُلوم والمعُارف وروحانيَّة التَّزكية للنُّفوس والضَّمائر، هو خير ما يُنشد عند رُعاة وسَدَنة التَّدوين والتَّصنيف الشَّرعي؛ وإنَّ ممَّا يُؤرِّق الرَّاصد للمسيرة الأصوليَّة، والمراقبَ لطيَّات ومرقومِ صَفَحاتها، وبِنية النَّظم لمسَائلها ومفَاصلها؛ هو ذلك الانطبَاع الملازم لصُورة هذا العِلم، وأنَّه لما دقَّ وعَسُر، وظنَّت عبارتُه، وندَّت مراداتُه، واختلط المقالُ فيه، وعزَّ النوالُ لأمهاتِ مبانيه؛ قِيل: إنَّ الإدمانَ عليه يُقسي القَلب، ويطردُ عن النَّفس زكاءَها؛ يقول ابنُ القيم رحمه الله، وقد أغلظ في شيءٍ من ذلك: "ولا تلتفِتْ إلى جدليٍّ لا حظَّ له من أعمال القلوب، بل قلبُه كالحجر أو أقسى؛ يقول: وما المانع؟ وما وجه الإحالة؟ ولو فُرِضَ ذلك واقعًا لم يلزم منه محالٌ لذاته"، ولم يُبعد عنه الشَّمس الذَّهبي رحمه الله، وهو ينقدُ الحيدةَ عن أعمالِ القُلُوب: "قلتُ: صدق -واللهِ- فما الظنُّ إذا كانت مسائلَ الأصول، ولوازمَ الكلام في معارضة النَّص؟ فكيف إذا كانت من تشكيكات المنطِق، وقواعد الحِكمة، ودين الأوائل؟".
إنَّ هذا النَّهج الذي ركبهُ بعضُ أهل الأُصُول؛ فتدثَّرت أطروحتُهم بالإغرابِ والإلغازِ، وربما بَلَغت في أحيانٍ منها سُدة التَّمويه والتَّعمية، وأُضرِمَت فيها جذوةُ الجَدَال والخِصَام، وغابَ عن أفيائِها عَبَقُ التَّكليف ومحاسن التَّشريف؛ إنَّ هذا النَّهج وإن نُقِدَ في طرفٍ منه، إلا أنَّه تبقى أطرافٌ منه، تَسَعَ فيها مسحةُ العذرِ، وأنَّهم -رحمهم الله- ما اعتورُوا هذا السبيلَ ابتداءً، ولا طلبُوه اختيارًا، وإنما اضطرَّهم إليه لحنُ مقالةِ أهلِ البَاطل، ومسايرةِ أَفَانينهم الكلاميَّة والمنطقيَّة؛ ردًّا على الحجَّة مِن جِنسها، وإبراءً للذمَّة أمامَ هذه النِّحل.
والذي تذهبُ إليه هذه المقالةُ من رأيٍ، أنَّ الأطروحةَ الأصوليةَ لم تقف صامتةً أمامَ أحوال التَّزكية والتَّطهير للنُّفوس ومخبَّآتها؛ بل ذهبت تنفخُ في جَسَد الأَوَامر والنَّواهي إكسِير حياتها، وتُشعل في مَسْرى بناء الكليَّات ورَصف الجزئيَّات نُورَ الوَحي وبريقَ حِلية خطابه؛ إنَّ هذه المدوَّنة الأصوليَّة، وبالأخص عند كبار روَّادها وأساطين نهضتهَا، لم تنفكَّ عن مقالةٍ تلامس أحوالَ القلوب، أو تعظيمٍ يُنزَّه فيه علامُ الغيوب، أو غيرةٍ تنتصرُ للمُحكمات، أو ثورةٍ على الإملاء بالشُّبهات؛ إنَّ هذا النَّسق الأُصُولي ليرسمُ عند المتتبِّع له لوحةً إيمانيَّة، تنطقُ مشاهدُها بمقاماتِ التَّعظيم والتَّوقير والنُّصرة والغِيرة.
ومن الشَّواهد على هذه المشَاهد:
أولا: التحرُّز في الاصطلاح، وألا يُبنى من المواضعات العُرفية، ما لا يُلائم مقام التَّنزيه والتَّعظيم للباري تعالى؛ فمصطلح الكُلي، وأنَّه ما لا يمنع تصوُّره من وقُوع الشِّركة فيه، وأنَّ من أقسام الكُلي واجبَ الوجود سبحانه، فإنَّ مجرَّد تصوره لا يمنع في الذِّهن من الشِّركة بما هو تصوُّر، إلَّا أنَّ بعضَ الأصوليين وقف من هذا الوَضع موقفَ الإنكار والإغلاظ، وأنَّ ما وجبَ للباري من حقِّ الإفراد والتَّوحيد يقضي على هذه التصوراتِ الذِّهنية؛ يقول الشِّهاب القرافيُّ رحمه الله: "لكنَّ إطلاق لفظ (الكُلي) على واجب الوُجود سبحانه وتعالى، فيه إيهامٌ تمنع من إطلاقه الشَّريعة؛ فلذلك قلتُ: تركته أدبًا".
ثانيًا: المحاذرة في تأسيس المقرَّرات الأصوليَّة مِن أن تمسَّ مخرجاتُها مقامَ الواجبِ للباري تعالى مِن صِفات الكَمال والجَلال، وألا تعودَ ولو بطرفٍ من القول على هذا الجنابِ بما يحيدُ عن عقيدة التَّنزيه والتَّعظيم، ولن تقومَ قائمةُ هذه المحاذرة، إلَّا في قلوبٍ رقَّت حواشيها ذُلًّا وإكبارًا للربِّ جلَّ على عَرشه؛ ولما زَاغت مقالةُ أهل الرَّفض في جواز النَّسخ وتبديل الأحكام، وركبُوا بهتانَ القولِ بالبداء وتجدُّد العِلم على الباري تعالى عن ذَلك؛ انتصبتْ أسنَّة أقلام أهل الأُصُول، حمايةً لهذا المقدَّس المهَاب؛ يقول ابن عقيلٍ رحمه الله: "وذهب قومٌ من الرافضة، وحكوهُ عن موسى بن جعفر، وعن علي رضي الله عنه: أن البداء جائزٌ على الله سبحانه... وهذا تجاسرٌ عظيم، وتهجمٌ على اللهِ بما لا يليقُ به سبحانه".
ثالثًا: استحضار المعاني والأحوال القلبيَّة في المحاجَّة الأصوليَّة، وأنها رُبما وجَّهت صِحَّة قولٍ على قولٍ؛ وهذا الحضُور وفي السِّياق النِّقاشي، ليُسجل التفاتةً أصوليَّة إلى هذه المنازل الروحيَّة بين أعطاف الأُصُول؛ فهذا الحُجة الغَزالي رحمه الله، وهو يناظرُ الحنفيةَ في إبطالهم التعليلَ بالعلة القاصرةِ، وأنَّها حينَ لم تتعدَّ فلا فائدةَ منها؛ يقول رحمه الله: "لا نُسلم عدم الفائدة؛ بل له فائدتان: الأولى: معرفة باعث الشَّرع ومصلحة الحكم؛ استمالةً للقُلوب إلى الطُّمأنينة والقَول بالطَّبع والمسارعة إلى التَّصديق؛ فإن النُّفوس إلى قبول الأحكام المعقُولة الجَارية على ذَوق المصالح أميلُ منها إلى قهر التَّحكم ومرارة التَّعبد؛ ولمثل هذا الغرض استُحب الوعظ وذكر محاسن الشَّريعة ولطائف معانيها، وكونُ المصلحة مطابقةً للنَّص وعلى قدر حذقِهِ يزيدُها حُسنًا وتأكيدًا".
رابعا: الغيرةُ أشدَّ ما يكونُ على أن يهدمَ ركنٌ من ثوابت الشَّرع، وأن تحاطَ محكماتُه بالسِّياج الحَصين من كلِّ شاذَّة وفاذَّة؛ وأنه إذا ما لاح رأيٌ أصوليٌ، يُوقِد في خَلَجَات النَّفس تمرُّدًا أو افتئاتًا على هذه الكليَّات، صِيغت المدوناتُ الأصوليةُ بأَغير وأَطهر الكَلم المنَافح، نصرةً وتأييداً؛ فهذا التَّاج السُّبكي رحمه الله، وهو ينقدُ اجتهادَ بعض الفقهاء، وأن يُعدل في كفَّارة الجماع في نهار رمضَان، عن النَّص إلى مصلحة الرَّدع والزَّجر؛ يقول رحمه الله: "فهذا قولٌ باطلٌ، ومخالفٌ لنصِّ الكتاب بما اعتقدهُ مصلحةً، وفتحُ هذا الباب يُؤدي إلى تغيير جميع حُدود الشَّرائع ونُصوصه، بسب تغيُّر الأحوال، ثم إذا عُرف ذلك من صَنيع العلماء، لم يحصل الثقةُ بقولهم للمُستفتين، ويَظن الظَّان أن فُتياهم بتحريفٍ من جهتهم بالرَّأي".
خامسًا: التَّزيي بحليَة الوَقار والإكبَار مع الرَّاسخةِ أقدامُهم والسَّابقة أقلامُهم في صِناعة وخِدمة الأُصول؛ وأن تُلتمس أطيبُ العِبارات إذا ما تعقَّبهم المتأخِّرون، وأن يُبذل لهم أكرم الإعذار إذا ما انفردُوا بالرأيِ عن العامَّة؛ لا عصمةً فيهم، وإنما إقامةً لحقِّ الله فيهم من التَّوقير والتَّقدير؛ وهذه أُعذوبةٌ من القولِ لا تعرفُها إلا القلوبُ التَّقية النَّقية؛ فهذا أبو المعَالي الجُويني رحمه الله، وهو يبتغي مخالفةَ الإمام الشَّافعي في ردِّه المراسيل، يقول رحمه الله: ثمَّ مخالفة الشَّافعي في أصول الفقه شديدةٌ؛ وهو ابنُ بجدتها، وملازمُ أرومتها؛ ولكني رأيتُ في كلام الشَّافعي ما يُوافق مسلكِي، هذا وتقرُّ به الأعين"؛ ثم يُسخر الله من بعدُ لأبي المعالي، مَن يجزيه الحُسنى بأُختها، فيعلِّق التَّاج السُّبكي على مخالفته إمامَ الحرمين في أنَّ الصُّورة المستثناة لا تكون معقولةَ المعنى: "وإمامُ الحرمين أجلُّ مِن أن يُصادم كلامُه بكلماتِ أمثالنا، ولكنَّا نقولُ على جهة الاستشكال دون المنَاظرة".
هذا هو علمُ الأصول في نُصرته وغِيرته، وهؤلاء هم أربُابه الكرام في طُهرهم ونَقائهم:
وَمِنّا خَطيبٌ لا يُعابُ وَحامِلٌ أَغَرُّ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ المَجامِعُ
وَمِنّا غَداةَ الرَوعِ فِتيانُ غارَةٍ إِذا مَتَعَت تَحتَ الزُجاجِ الأَشاجِعُ
أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ
بِهِم أَعتَلي ما حَمَّلَتني مُجاشِعٌ وَأَصرَعُ أَقراني الَّذينَ أُصارِعُ