Slaati
د. عدنان بن زايد الفهميد.

الحجُّ بلا تصريحٍ وأُنموذج الإفتَاء الرَّشيد في النَّوازل المعَاصرة

منذ 4 شهر03149

مشاركة

أكَّدت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعوديَّة، أن الالتزام باستخراج تصريح الحج والتزام قاصدي المشاعر المقدَّسة بذلك يتفق والمصلحة المطلوبة شرعًا؛ حيث جاءت الشريعة بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وأوضحت بأنَّه لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح، ويأثم فاعله، ومن لم يتمكَّن من استخراج التَّصريح فإنه في حكم غير المستطيع، وقد أكَّد رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، معالي الشيخ د. عبد الرحمن السديس على هذا البيانِ، وضرورة حصول الراغبين في أداء مناسك الحج على التَّصريح.

إنَّ في هذا البيانِ الصَّادر عن هذه المؤسَّسة العلميَّة الموثوقِ بها، والإحاطةِ بالمعطيات الشرعيَّة المقترنة بهذه النَّازلة المعاصرة، وما تبذلُه حكومة خادم الحرمين الشريفين سددها الله، من شتى الجهودِ ومختلف الإمكانيَّات البشريَّة والماديَّة والمعنويَّة، وما يقتضيه هذا التَّسخير الكبير من عملية تنظيمٍ وتقديرٍ مدروستين للحشودِ المواكبة لهذا المنسكِ الجليل؛ ليملي ذلك كلُّه على محكمات الفتوى الشرعيَّة وأدبياتها المرعيَّة، أن تتَّجه في هذا السياقِ إلى ما يُرشِّد الاجتهاد الفقهي، ويجعله في صورةٍ من الاعتدال والوسطية والأخذ بأطراف النُّصوص والظواهر وتجليَّات المقاصد والمعاني؛ وهو الأمر الذي سارت نحوه هذه الفتوى الرشيدة من هيئة كبار العلماء.

وفي تأكيد اعتدال ووسطيَّة ورشادِ هذا القرار، وارتباطه بالشَّريعة نصًّا ومعنًى، ونُطقا ورُوحا؛ تُسجل هذه المقالةُ الحجج التَّالية، والنَّاظمة لأطراف هذا التَّكامل الاجتهادي:

أولا: أنَّ من مقاصد الشريعة الكليَّة، والتي تعود على معاشِ المكلَّفين ومعادهم بالانضباط والاستقرار: مقصد حفظ الأمن في المجتمعات، وهو مقصد مرتبطٌ ومؤثرٌ على الضَّروريات الخمس؛ يقول الإمام الماورديُّ -رحمه الله- مثبتاً لمقصد الأمن في الشَّريعة: "الثالث: حماية البيضة والذَّب عن الحريم ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال... والخامس: تحصين الثُّغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداءُ بغرة، ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا" [الأحكام السلطانية (ص40)].

وإنَّ في إدارة هذه الحشودِ الضَّخمة، والتي تعدُّ من أكبر التَّظاهرات البشريَّة المعاصرة: ليُحتم على القائمين على هذه الشعيرة الجليلة، أن يَرعوا هذه الضَّرورةَ المحكمة ثبوتا والنافذة أثرا، وأن يسعوا فيما مِن شأنه أن يحيطَ بها حفظا وصيانةً؛ يقول إمام الحرمين الجُويني: "قيَّض الله السلاطين وأولي الأمر وازعين؛ ليوفروا الحقوق على مستحقيها، ويبلغوا الحظُوظ ذويها، ويكفُّوا المعتدين، ويعضدوا المقتصدين، ويُشيدوا مباني الرشاد، ويحسموا معاني الغي والفساد؛ فتنتظم أمورُ الدنيا، ويُستمد منها الدِّين الذي إليه المنتهى" [غياث الأمم (ص182)].

ثانيًا: أن الالتزام باستخراج تصريح الحج، والتزام قاصدي المشاعر المقدسة بذلك، يتفق والمصلحة المطلوبة شرعا؛ ذلك أنَّ الجهات الحكومية المعنية بتنظيم الحج ترسم خطة موسم الحج بجوانبها المتعددة، الأمنية والصحية والخدميَّة، وفق الأعداد المصرح لها، وكلما كان عدد الحجاج متوافقًا مع المصرَّح لهم كان ذلك محققًا لجودة الخدمات التي تقدَّم للحجاج؛ وتتعاظم بذلك المصلحةُ العامة لهم.

ثم إنَّ من القواعد الراعية للاجتهاد المصلحيِّ؛ أنَّ المصالح العامة إذا تزاحمت مع المصالح الخاصَّة، وتعذَّر الجمعُ بينهما: فإن المصلحة العامة -في هذه الحال- تقدَّم على المصلحة الخاصة؛ يقول شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمه الله: "القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنَّه يجب ترجيح الراجح منها... فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته" [الاستقامة (2/216)].

ثم إنَّ هذه المصلحةَ الخاصةَ لا يُفضى إليها، إلا بسبيلٍ من التزويرِ والتَّحايل على أنظمة الحج والعمرة والزيارة؛ يقول النبيُّ ﷺ: (قَاتَلَ الله الْيهُودَ؛ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِم الشُحُومَ، فَأَجْمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَه) [البخاري (2236)]، وقد علَّق ابن القيِّم -رحمه الله- على هذا المعنى بقولِه: "ولا ريب أن من تدبر القرآن، والسنة، ومقاصد الشارع: جزم بتحريم الحيل وبطلانها" [إغاثة اللهفان (1/377)].

ثالثًا: أنَّ من أنعمَ النظرَ في المفاسد المترتِّبةِ على أداء هذه العبادة من غير الحصول على التَّصريح الذي شرَّعه ولي الأمر، والتحايل على ذلك بالتَّزوير أو التَّسلل أو التَّهرب من النقاط الأمنيَّة: من نظر في مفاسد ذَلك؛ من خشية وقوع الزحام الكبير، والذي ربما أدَّى إلى التَّدافع وهلكة النَّاس أو تأذِّيهم، يضمُّ إلى ذلك التعدِّي من المخالفين على الخدمات المقدَّمة والمحدَّدة لأصحاب التصاريح، كما يصحبُ ذلك الخشيةَ على الجوانب الصحيَّة والأمنيَّة؛ كلَّ ذلك إذا تأمَّله المجتهدُ، ووضعه في ميزان النظر التحوطي: فإنَّه يرى مفسدة بينة التَّحقق والوقوع.

ثمَّ إنَّ في ميزان الموازنات الشَّرعية؛ أنَّ درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح، متى ما أمكنَ هذا الدَّفعُ بما لا يترتَّب عليه من الضَّرر ما هو مثله أو أعظم منه؛ وكُل ذلك يأذن فيه الشَّارع لوليِّ الأمر بتقييد المباحاتِ، ومغالبة المفاسد والأضرار؛ يقول العز ابن عبد السلام رحمه الله: "فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة: درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة؛ قال الله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)؛ حرَّمهما لأنَّ مفسدتهما أكبر من منفعتهما" [قواعد الأحكام (1/98)]. رابعًا: أنَّ الفعلِ إذا أفضى إلى المفسدةِ باليقين أو الظنِّ المعتبر، وذلك بأن يكون الإفضاء والمآلُ مطردًا أو أكثريًّا، وأن تكون المفسدةُ المترتبةُ على هذا المآل أرجح من المصالح المحتفةِ بها: فإنَّه حينها تأخذ الأفعالُ حكمَ هذا المآل، منعًا وزجرًا وصدًّا؛ وهذا من رحمة الله بالعبادِ، وهو من الهدى والرشَاد في تقدير أحكامه.

وقد رسم الإمامُ الشَّاطبي – رحمه الله- منظومة الاجتهاد والفتوى، خاصةً فيما نزل منها، وجعل تلك المركزية للنظر المآليِّ والذرائعيِّ في هذه الواجبات المعظَّمة؛ فقال رحمه الله: "وضابطه أنَّك تعرض مسألتك على الشريعة؛ فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها؛ إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غيرَ لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية" [الموافقات (5/ 172)].

إنَّ هذه الحجج الشرعيَّة؛ وقد أحاطت بتقدير المعطياتِ علمًا، وتحقيق المناطات عقلًا، والنَّظر في الملابساتِ حكمةً وبصيرةً: ليجعل هذا البيانَ الصادرَ عن هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعوديَّة، أُنموذجًا على الإفتَاء الرَّشيد في النَّوازل المعَاصرة.

التعليقات ()

مشاركة

أخر الأخبار

حادث ألعاب نارية يفتح تحقيقاً ضد هانزا روستوك
حادث ألعاب نارية يفتح تحقيقاً ضد هانزا روستوك
ماجد محمد
منذ 15 دقيقة
0
1370
استشاري يشدد على أهمية اللقاح الخاص بالإنفلونزا الموسمية.. فيديو
استشاري يشدد على أهمية اللقاح الخاص بالإنفلونزا الموسمية.. فيديو
أميرة خالد
منذ 15 دقيقة
0
1365
ترامب عن عمدة خان: من الأسوأ في العالم
ترامب عن عمدة خان: من الأسوأ في العالم
واشنطن
منذ 15 دقيقة
0
1368
جيسوس: عبدالإله العمري لاعب محترف ويعمل بجد مع النصر
جيسوس: عبدالإله العمري لاعب محترف ويعمل بجد مع النصر
ماجد محمد
منذ 36 دقيقة
0
1415
برشلونة يواجه باريس سان جيرمان خارج كامب نو
برشلونة يواجه باريس سان جيرمان خارج كامب نو
ماجد محمد
منذ 38 دقيقة
0
1404
إعلان
مساحة إعلانية