حيلة الأذكياء وسِمَة النبلاء
التغافل هو سموّ الأخلاق وذكاء القلوب ليس كل من رأى وتغافل ضعيفًا وليس كل من فهم وسكت عاجزًا.
فالتغافل ذلك "الفعل الصامت" هو من أرفع درجات الوعي الإنساني وأسمى مراتب الأخلاق.
هو قرارٌ يتخذه العاقل حين يدرك أن الرد على كل صغيرة، وملاحقة كل خطأ، تُنهك الروح وتُتعب القلب وتُطفئ النور الداخلي.
التغافل ليس جهلًا، بل هو قمّة الذكاء.
لا يمارسه سوى الأذكياء والعباقرة الذين يرون كل شيء ويفهمون كل شيء، يلتقطون الهمسة واللفتة والنظرة، ويقرؤون ما وراء الكواليس.
ومع ذلك!
يختارون الصمت، لأنهم أوسع نظرًا، وأعمق وعيًا، وأرقى خُلُقًا.
إن التغافل ليس تهاونًا في الحق، بل هو تسامٍ عن الصغائر.
هو أن تمتلك القدرة على الرد، ثم تختار غض الطرف.
أن تفهم الإهانة، ثم تبتسم.
أن تُدرك الخديعة، ثم تمضي في طريقك بثبات، لأن قلبك أكبر من أن تُلوّثه التفاصيل، وروحك أنقى من أن تُستدرج إلى صغائر الأمور.
يقولون:
“ما استقصى كريمٌ قطّ"
لأن الكريم لا يُفتّش في الزلات، بل يُعرض عنها بكرم النفس، ويكتفي بعلمه دون أن يُشعل نارًا في موقدٍ لا يستحقّ الوقود.
التغافل لا يُمارسه إلا من عرف قيمته وقيمة من أمامه.
فقد تتغافل مراعاةً لمكانة شخصٍ، أو حفاظًا على ود، أو طلبًا لأجرٍ عند الله، لأن التغافل في جوهره عبادة خفيّة، لا يراها الناس، لكنها تُكتب في صحائف الأخلاق العليا.
وفي زمنٍ تضخّمت فيه ردّات الفعل، وغابت فيه سكينة الحكماء، يصبح المتغافل سيد الموقف، والمالك الحقيقي لزمام نفسه.
فهو يعلم أن العظمة ليست في الانتصار بالكلمة، بل في الانتصار على النفس.
التغافل فنّ لا يتقنه إلا الراقيون.
هو تاج الأدب، وعنوان الذكاء، ودليل صفاء القلب.
فمن أراد رفعة الدنيا ومكانة الآخرة، فليتعلم كيف يتغافل… بوعي، وبحب، وبسلام.





